جــــــــزء فيه
فوائد حديث أبي عمير
للإمام الفقيه أبي العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري البغدادي الشافعي
المعروف بابن القاص "توفي سنة 335هـ"
تحقيق وتعليق
صابر أحمد البطاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
ربنا أفرغ علينا صبراً
أخبرنا شيخنا الإمام الحافظ العلامة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن مظفر بن أبي محمد النابلسي _ فسح الله في مدته _ بقراءتي عليه يوم الثلاثاء العشرين(1) من جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وسبعمائة ، قال : أخبرنا الإمام الحافظ زين الدين أبو محمد عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فيروز الفارقي الشافعي رحمه الله تعالى إجازة ، قال _ وغير واحد(2) _: أخبرنا الشيخ الإمام الحافظ تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن ابن الصلاح إجازة ، أنا أبو عبد الله محمد بن عمر بن أبي بكر المقدسي بقراءتي عليه عام أحد وستمائة بالموصل ، أنا الحافظ أبو سعيد الخليل بن أبي الرجاء ابن أبي الفتح الرَّارَاني ، أنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الدقاق ، أخبرني الشيخ الخطيب أبو الفتح عبد الرزاق بن حسان بن سعيد بن حسان بن محمد المنيعي المخرومي بقراءتي عليه مرات _ ثلاثاً _ قلت له : أخبركم الشيخ أبو مسعود أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد العزيز البجلي _ قدم عليكم _ ثنا القاضي أبو محمد الحسن بن محمد بن موسى بن سندوله ، أنا أبو علي الزجاجي : نا أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري ، قال : وأما قصة أبي عمير فأنا ذاكرُها بروايتها ومُلَطِّفُ القولَ في تخريج ما فيها من وجوه الفقهِ والسُّنة ، وفنون الفائدة والحكمة ، ليعلم الزاري على أهل الحديث _ به _ أنهم بالمدح أولى ، وأن السكوت كان به أحرى .. وذلك : أن فيه ستين وجهاً من الفقه ! وسنأتي _ إن شاء الله وعون الله وتوفيقه _ على بيان ذلك وتفضيله:
1- أخبرنا أبو خليفة بن الحباب الجمحي(1)،نا أبوالوليد الطيالسي(2) ثنا شعبة (3)عن أبي التياح(4)،عن أنس بن مالك:أن النبي صلى الله عليه وسلم قال-لأخٍ له صغير-:"يا أبا عمير ما فعل النغير"؟.
2- حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي(1) وأبو يعلى أحمد بن علي الموصلي(2)،قالا:ثنا محمد بن عمرو بن جبلة البصري(3)،ثنا محمد بن مروان(4)عن هشام(5)،[عن] محمد(6)،عن أنس بن مالك قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغشانا ويخالطنا ، فكان معنا صبي يقال له: أبو عمير، فقال : " يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ " .
3- حدثنا عبد الله بن غنام الكوفي(1)،ثنا أبو بكر بن أبي شيبة(2)،نا وكيع(3)، عن شعبة عن أبي التياح الضبعي،قال:سمعت أنس بن مالك
يقول:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالطنا، ونضحنا له بساطاً لنا فصلى عليه، وكان يقول لأخ لي : " يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ " .
4- حدثنا إسحاق بن أحمد الخزاعي(1) ، ثنا محمد بن يحيى بن أبي
عمر العدني(2) نا مروان بن معاوية الفزاري(3) عن حميد(4) عن أنس
بن مالك،قال : كان بنيٌّ لأبي طلحة يكنى أبي عمير ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء إلى أم سليم مازحه ، فدخل فرآه حزيناً ، فقال : " ما بال أبي عمير حزيناً ؟ " فقالوا : مات يا رسول الله نغيره الذي كان يلعب به ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أبا عمير ما فعل النغير " . قال أنس : وما مسست شيئاً قط _ خزه ولا حريرة _ ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- حدثنا أحمد بن علي الموصلي ، نا وهب بن بقية(1) ، ثنا خالد بن عبد الله(2) عن حميد عن أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي أم سليم ، وكان إذا مشى يتوكأ ، فكان ينام على فراشها _ ثم ذكر الحديث بطوله _ قال أبو العباس : وفيما روينا من قصة أبي عمير ستون وجهاً من الفقه والسنة وفنون الفائدة والحكمة .
فمن ذلك :
1-أن سنة الماشي أن لا يتبختر في مشيته ولا يتبطأ فيه فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى توكأ كأنما ينحدر من صبب(1) .
2-ومنها الزيارة سنة .
3-ومنها الرخصة للرجال في زيارة النساء غير ذوات المحارم(2) .
4-ومنها زيارة الحاكم الرعية .
5- ومنها إذا خص الحاكم بالزيارة والمخالطة بعض الرعية دون بعض فليس ذلك بميلٍ .وقد كان بعض أهل العلم يكره للحكام ذلك .
6- وإذا ثبت ما وصفنا كان فيه وجه من تواضع الحاكم للرعية .
7- وفيه دليل على كراهية الحجاب للحكام .
8- وفيه أن الحاكم يجوز له أن يسير وحده .
9- وأن أصحاب المقارع بين يدي الحكام والأمراء محدثة مكروهة .. لما روي في الخبر : رأيت النبي صلى الله علي وسلم بمنى على ناقة له ، لا ضرب ولا طرد ، ولا إليك إليك(1).
10- وفي قوله : ( يغشانا ) ما يدل على كثرة زيارته لهم .
11- وأن كثرة الزيارة لا تخلق الحب والمودة ولا تنقصها إذا لم يكن معها طمع .
12- وأن قوله عليه السلام لأبي هريرة : " زر غِباً تزدد حباً "(1) . كما قال بعض أهل العلم لما رأى في زيارته من الطمع لما كان بأبي هريرة من الفقر والحاجة حتى دعا له النبي صلى الله عليه وسلم في مِزودة ، وكان لا يدخل يده فيها إلا أخذ حاجته فحصلت له الزيارة دون الطمع(2) .
13- وفي قوله : " يخالطنا " ما يدل على الألفة ، بخلاف النفور ، وذلك من صفة المؤمن ، كما روي في بعض الأخبار : المؤمن ألوف(3) والمنافق نفور
14- ومنها أن ما روي في الخبر:(فر من الناس فرارك من الأسد)(4) : إذا كانت في لقيهم مضرة لا على العموم ، فأما إذا كانت فيه للمسلمين ألفة ومودة فالمخالطة أولى .
15- وفيه دلالة على الفرق بين شباب النساء وعجائزهن في المعاشرة ، إذا اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم إلى من رآه واقفاً مع صفية(1) ولم يعتذر من زيارته أم سليم ، بل كان يغشاهم الكثير .
16- وفي قوله : ( ما مسست شيئاً قط ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : ما يدل على مصافحته ، وإذا ثبت المصافحة دل على تسليم الزائر إذا دخل .
17- ودل على مصافحته .
18- ودل على أن يصافح الرجل دون المرأة ؛لأنه لم يقل:(فما مسسنا ) ،وإنما قال : ( ما مسست) ،وكذلك كانت سنته صلى الله عليه وسلم في التسليم على النساء ومبايعته ، وإنما كان يصافح الرجال دونهن(2) .
19- وفي لين كفه ما يدل على أن لا ينبغي أن يتعمد المصلي إلى شدة الاعتماد على اليدين في السجود _ كما اختار ذلك بعضهم لما وجده في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان شثن الكفين والقدمين(1) ، فقال : ينبغي أن يتعمد إلى شدة الاعتماد على اليدين في السجود ليؤثر على يديه دون جبهته _ .
20- وفيه ما يدل على الاختيار للزائر إذا دخل على المزور أن يصلي في بيته كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم .
21- وفيه ما يدل على ما قاله بعض أهل العلم : أن الاختيار في السنة الصلاة على البساط والجريد والحصير ، وقد قيل في بعض الأخبار أنه كان حصيراً بالياً ، وذلك أن بعض الناس كان يكره الصلاة على الحصير ، وينزع بقول الله تعالى : { وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً } [ سورة الإسراء : 8 ] .
22- وفي نضحهم ذلك له وصلاته عليه مع علمه صلى الله عليه وسلم أن في البيت صبياً صغيراً دليل على أن السنة ترك التقزز .
23-ودليل على أن الأشياء على الطهارة حتى يعلم يقين النجاسة(1)
24- وفي نضحهم البساط لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على أن الاختيار للمصلي أن يقوم في صلاته على أروح(2) الحال وأمكنها ، لا على أجهدها وأشدها ، لئلا يشغله الجهد عما عليه من أدب الصلاة(3) وخشوعها ، كما أمر الجائع أن يبدأ بالطعام قبل الصلاة ، خلاف ما زعم بعض المجتهدين إذ زعم أن الاختيار له أن يقوم على أجهد الحال ، كما سمع في بعض الأخبار أنهم لبسوا المِسحَ(4) إذا قاموا من الليل وقيدوا أقدامهم.
25- وفي صلاته في بيتهم ليأخذوا علمها دليل على جواز حمل العالم علمه إلى أهله : إذا لم يكن فيه على العلم مذلة ، وأن ما روي في أن : ( العلم يؤتى ولا يأتي ) : إذا كانت فيه للعلم مذلة ، أو كان من المتعلم على العالم تطاول(1) .
26- وفيه دلالة اختصاص لآل أبي طلحة إذ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتهم.
27- وأخذهم قبلة بيتهم بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الدلائل والعلامات .
28- وفي قوله : ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء مازحه ) ما يدل على أنه كان يمازحه كثيراً ؛ وإذا كان كذلك كان في ذلك شيئان
29- أحدهما : أن ممازحة الصبيان مباح .
30- والثاني:أنها إباحة سنة لا إباحة رخصة،لأنها لو كانت إباحة رخصة لأشبه أن لا يكثرها، كما قال في مسح الحصى للمصلي:"فإن كنت لا بد فاعلاً فمرة " لأنها كانت رخصة لا سنة .
31- وفيه _ إذ مازحه صلى الله عليه وسلم _ ما يدل على ترك التكبر والترفع .
32- وما يدل على حسن الخلق .
33- وفيه دليل على أنه يجوز أن يختلف حال المؤمن في المنزل من حاله إذا برز ، فيكون في المنزل أكثر مزاحاً ، وإذا خرج أكثر سكينة ووقاراً _ إلا من طريق الرياء _ كما روي في بعض الأخبار : كان زيد بن ثابت من أفْكَهِ الناس إذا خلا بأهله ، وأزمتهم عند الناس(1).
34- وإذا كان ذلك كما وصفنا ففيه دليل على أن ما روي في صفة المنافق أنه يخالف سره علانيته ليس على العموم وإنما هو على معنى الرياء والنفاق،كما قال جل ثناؤه:{وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون)[ البقرة : 14](1)
35- وفي قوله : ( فرآه حزيناً ) : ما يدل على إثبات التفرس في الوجوه . وقد احتج بهذا المعنى بعض أهل الفراسة بما يطول ذكره وأكره الإكثار إذ الغرض غيرهما (2).
36- وفيه دليل على الاستدلال بالعبرة(3) لأهلها إذ استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن الظاهر في وجهه على الحزن الكامن في قلبه حتى حداه على سؤال حاله .
37- وفي قوله : " ما بال أبي عمير ؟ " دليل على أن من السنة إذا رأيت أخاك أن تسأل عن حاله .
38- وفيه دليل _ كما قال بعض أهل ا لعلم _ على حسن الأدب بالسنة في تفريق اللفظ بين سؤالين : فإذا سألت أخاك عن حاله قلت : مالك ؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة " مالك يا أبا قتادة "(1) وإذا سألت غيره عن حاله قلت : ما بال أبي فلان ؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : " ما بال أبي عمير".
39- وفي سؤاله صلى الله عليه وسلم من سأل _ عن حال أبي عمير _ دليل على إثبات خبر الواحد .
40- وفيه دليل على أنه يجوز أن يكنى من لم يولد له ، وقد كان عمر بن الخطاب يكره ذلك حتى أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم(2) .
41- وفي قوله : ( مات نُغيره الذي كان يلعب به) : تركه النكير بعد ما سمع ذلك صلى الله عليه وسلم دليل على الرخصة في اللعب للصبيان .
42- وفيه دليل على الرخصة للوالدين في تخلية الصبي وما يروم من اللعب إذا بم يكن من دواعي الفجور . وقد كان بعض الصالحين يكره لوالديه أن يخلياه .
43- وفيه دليل على أن إنفاق المال في ملاعب الصبيان ليس من أكل المال الباطل ... إذا لم يكن من الملاهي المنهية .
44- وفيه دليل على إمساك الطير في القفص .
45- وقص جناح الطير لمنعه من الطيران ، وذلك أنه لا يخلو من أن يكون النغيرة التي كان يلعب بها في قفص ، أو نحوه ؛ من شد رجلٍ أو غيره أو أن تكون مقصوصة الجناح . فأيهما كان المنصوص فالباقي قياس عليه ، لأنه في معناه ، وقد كان بعض الصحابة يكره قص جناح الطائر ، وحبسه في القفص(1).
46- وفيه دليل على أن رجلاً لو اصطاد صيداً خارج الحرم ثم أدخل الحرم لم يكن عليه إرساله(1) ..وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الاصطياد بين لابتي المدينة وأجاز لأبي عمير إمساكه فيها . وكان ابن الزبير يفتي بإمساك ذلك .. ومن حجته فيه : أن من اصطاد صيداً ثم أحرم وهو في يده .. فعليه إرساله ، فكذلك إذا اصطاد في الحل ثم أدخله الحرم .وفرق الشافعي بين المسألتين كما وصفنا ، فقال : من اصطاد ثم أحرم والصيد في ملكه فعليه إرساله ، ومن اصطاده ثم أدخله الحرم فلا إرسال عليه .
47- وفي قوله : " ما فعل النغير؟ " دليل على جواز تصغير الأسماء كما صغر النغيرة وكذلك المعنى في قوله : كان ابنٌ لأبي طلحة يكنى أبا عمير .
48- وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مازحه[ بذلك يبكي ](1) أبو عمير ، ففي ذلك دليل أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر : " إذا بكى اليتيم اهتز العرش"(2) ليس على العموم في جميع بكائه . وذلك أن بكاء الصبي على ضربين : أحدهما : بكاء الدلال عند المزاح والملاطفة .والآخر : بكاء الحزن أو الخوف عند الظلم أو المنع عما به إليه الحاجة . فإذا مازحت يتيماً أو لاطفته فبكى فليس في ذلك _ إن شاء الله تعالى _ اهتزاز عرش الرحمن .
49- وقد زعم بعض الناس أن الحكيم لا يواجه بالخطاب غير العاقل . وقال بعض أصحابنا : ليس كذلك ؛ بل صفة الحكيم في خطابه أن لا يضع الخطاب في غير موضعه(1) وكان في هذا الحديث كذلك دليل ؛ ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم واجه الصغير بالخطاب عند المزاح فقال : " يا أبا عمير ، ما فعل النغير " ، ولم يواجهه بالسؤال عند العلم والإثبات ، بل خاطب غيره ، فقال : " ما بال أبي عمير ؟ " .
50- وفيه دليل على أن للعاقل أن يعاشر الناس على قدر عقولهم ولا يحمل الناس كلهم على عقله .
51- وفي نومه صلى الله عليه وسلم عندهم دليل على أن عماد القسم بالليل،وأن لاحرج على الرجل في أن يقيل بالنهار عند امرأة في غير يومها.
52- وفيه دليل على سنة القيلولة(2) .
53- وفيه دليل على خلاف ما زعم بعضهم في أدب الحكام أن نوم الحكام والأمراء في منزل الرعية _ ونحو ذلك من الأفعال _ دناءة تسقط مروءة الحاكم .
54- وفي نومه على فراشها دليل على خلاف قول من كره أن يجلس الرجل في مجلس امرأة ليست له بمحرم أو يلبس ثوبها وإن كان على تقطيع الرجال .
55- وفيه أنه يجوز أن يدخل المرء على امرأة في منزلها وزوجها غائب وإن لم تكن ذات محرم له(1).
56-وفي نضح البساط له ونومه على فراشها دليل على إكرام الزائر .
57- وفيه أن التنعم الخفيف غير مخالف للسنة . وأن قوله : " كيف أنعم وصاحب الصّورِ قد التقم الصّور "(2) : ليس على العموم إلا فيما عدا التنعم القليل .
58- وفيه دليل على أنه ليس بفرض على المزور أن يشيع الزائر إلى باب الدار – كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتشييع الضيف إلى باب الدار(3) – إذ لم يذكر في هذا الحديث تشييعهم له إلى الباب .
59- وقد اختلف أهل العلم في تفسير ما ذكر من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث هند بن أبي هالة(1) : " كانوا إذا دخلوا عليه لا يفترقون إلا عن ذواق(2) " قال بعضهم : أراد به الطعام .
وقال بعضهم : أراد به ذواق العلم .
ففي تفسير هذا الحديث الدليل على تأويل من تأوله على ذواق العلم ، إذ قد أذاقهم العلم ولم يذكر فيه ذواق الطعام .
60- وكان من صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان يواسي بين جلسائه(3) حتى يأخذ منه كل بحظ . وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دخوله على أم سليم : صافح أنساً ، ومازح أبا عمير الصغير ، ونام على فراش أم سليم ، حتى نال الجميع من بركته صلى الله عليه وسلم(1) .
61- وإذ كان طلب العلم فريضة على كل مسلم ، فأقل ما في تحفظ طرقه أن يكون نافلة .
وفيه أن قوماً أنكروا خبر الواحد ، ثم افترقوا فيه واختلفوا :
فقال بعضهم بجواز خبر الاثنين قياساً على الشاهدين .
وقال بعضهم بجواز خبر الثلاثة ، ونزع بقول الله جل ذكره : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } [سورة التوبة : 122] .
وقال بعضهم بجواز خبر الأربعة قياساً على أعلى الشهادات وأكبرها .
وقال بعضهم بالشائع والمستفيض.فكان في تحفظ طرق الأخبار ما يخرج به الخبر عن حد الواحد إلى حد الاثنين وخبر الثلاثة والأربعة ، ولعله يدخل في خبر الشائع المستفيض .
62- وفيه أن الخبر إذا كانت له طرق ... وطعن الطاعن على بعضها احتج الراوي بطريق آخر ولم يلزمه انقطاع ؛ ما وجد إلى طريق آخر سبيلاً .
63- وفيه أن أهل الحديث لا يستغنون عن معرفة النقلة والرواة ومقدارهم في كثرة العلم والرواية ، ففي تحفظ طرق الأخبار ومعرفة من رواها وكم روى كل راوٍ منهم ما يعلم به مقادير الرواة ومراتبهم في كثرة الرواية .
64- وفيه أنه إذا استقصوا في معرفة طرق الخبر عرفوا به غلط الغالط إذا غلط ، وميزوا به كذب المدلس ، وتدليس المدلس .
65- وإذا لم يستقص المرء في طرقه واقتصر على طريق واحد كان أقل ما يلزمه إذا دلس عليه في الرواية أن يقول : لعله قد روي ولم أستقص فيه ، فرجع باللائمة والتقصير على نفسه والانقطاع ، وقد حل لخصمه .
فذلك كله ستون وجهاً من فنون الفقه والسنة والفوائد والحكمة .
66- ثم نزيد على الستين :
أن مثل هذا الحديث فيه تثبيت الامتحان والتمييز بيننا وبين أمثالهم ؛ إذ لم يهتدوا إلى شيءٍ من تخريج فقهه ، ويستخرج أحدنا منه – بعون الله وتوفيقه – كل هذه الوجوه !!!
وفي ذلك وجهان :
أحدهما : اجتهاد المستخرج في استنباطه .
والثاني : تبيين فضيلته في الفقه والتخريج على أغياره .
والعين المستنبط منها عين واحدة ، ولكن من عجائب قدرة اللطيف في تدبير صنعه : أن تسقى بماء واحد ويفضل بعضها على بعض في الأكل!
نجز الجزء – والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً – ليلة الثلاثاء تاسع عشر(1) جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وسبعمائة بالدـادرلية بمحروسة دمشق ، كتبه أحمد بن علي بن عيسى الشافعي – عفا الله عنه .
ذكر ما جاء من الفوائد في كتاب " فتح الباري "
زيادة على ما جاء بشرح ابن القاص
وذكر ابن بطال من فوائد هذا الحديث أيضاً :
استحباب النضح فيما لم يتيقن طهارته .
وفيه أن أسماء الأعلام لا يقصد معانيها .
و أن إطلاقها على المسمى لا يستلزم الكذب ، لأن الصبي لم يكن أباً ، و قد دعي :أبا عمير .
وفيه جواز السجع(1) في الكلام إذا لم يكن متكلفاً .
وأن ذلك لا يمتنع من النبي صلى الله عليه وسلم كما امتنع منه إنشاء الشعر(2) .
وفيه إتحاف الزائر بصنيع ما يعرف أنه يعجبه من مأكول أو غيره .
وفيه جواز الرواية بالمعنى ، لأن القصة واحدة وقد جاءت بألفاظ مختلفة.
وفيه جواز الاقتصار على بعض الحديث ، و جواز الإتيان به تارة مطولاً ، و تارة ملخصاً ، وجميع ذلك يحتمل أن يكون من أنس ، و يحتمل أن يكون ممن بعده ، و الذي يظهر أن بعض ذلك منه ، و الكثير منه ممن بعده ، و ذلك يظهر من اتحاد المخارج واختلافها .
وفيه مسح رأس الصغير للملاطفة .
وفيه دعاء الشخص بتصغير اسمه عند عدم الإيذاء .
و فيه جواز السؤال عما السائل به عالم لقوله : "ما فعل النغير؟ " بعد علمه بأنه مات .
وفيه إكرام أقارب الخادم و إظهار المحبة لهم ، لأن جميع ما ذكر من صنيع النبي صلى الله عليه و سلم مع أم سليم و ذويها كان غالبه بواسطة خدمة أنس له .
ومن الفوائد التي لم يذكرها ابن القاص و لا غيره في قصة أبي عمير:
أن عند أحمد في آخر رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عن أنس : " فمرض الصبي فهلك " فذكر الحديث في قصة موته ، و ما وقع لأم سليم من كتمان ذلك عن أبي طلحة حتى نام معها ، ثم أخبرته لما أصبح ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فدعا لهما ، فحملت ثم وضعت غلاماً ، فأحضره أنس إلى النبي صلى الله عليه و سلم فحنكه ، و سماه :عبد الله ، و قد تقدم شرح ذلك مستوفي في كتاب الجنائز(1) ، و تأتي الإشارة إلى بعضه في باب المعاريض(2) قريباً .
وقد جزم الدمياطي في أنساب الخزرج بأن أبا عمير مات صغيراً .
وقال ابن الأثير(3) في ترجمته في الصحابة : " لعله الغلام الذي جرى لأم سليم و أبي طلحة في أمره ما جرى " ، وكأنه لم يستحضر رواية عمارة بن زاذان المصرحة بذلك فذكره احتمالاً .
ولم أر عند من ذكر أبا عمير في الصحابة له قصة غير قصة النغير ، و لا ذكروا له اسماً بل جزم بعض الشراح بأن اسمه كنيته .
فعلى هذا يكون ذلك من فوائد الحديث ، وهو جعل الاسم المصدر بأب أو أم اسماً علماً من غير أن يكون له اسم غيره ، لكن قد يؤخذ من قول أنس في رواية ربعي بن عبد الله : (يكنى أبا عمير ) أن له اسماً غير كنيته .
وأخرج أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من رواية هشيم ، عن أبي عمير بن أنس ابن مالك ، عن عمومة له حديثاً ، وأبو عمير هذا ذكروا أنه كان أكبر ولد أنس ، وذكروا أن اسمه عبد الله -كما جزم به الحاكم أبو أحمد وغيره - فلعل أنساً سماه باسم أخيه لأمه وكناه بكنيته و يكون أبو طلحة سمى ابنه الذي رزقه خلفاً من أبي عمير باسم أبي عمير لكنه لم يكنه بكنيته والله أعلم .
ثم وجدت في كتاب " النساء " - لأبي الفرج ابن الجوزي -قد أخرج في أواخره في ترجمة أم سليم عن طريق محمد بن عمرو - وهو أبو سهل البصري ، وفيه مقال - عن حفص بن عبيد الله ، عن أنس .. أن أبا طلحة زوج أم سليم كان له منها ابن يقال له حفص ، غلام قد ترعرع ، فأصبح أبو طلحة وهو صائم في بعض شغله .. فذكر قصة نحو القصة التي في الصحيح بطولها في موت الغلام و نومها مع أبي طلحة ، وقولها له: " أرأيت لو أن رجلاً أعارك عارية ... ) إلخ ـ ، و إعلامها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك و دعائه لهما ، و ولادتها و إرسالها الولد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه .
وفي القصة مخالفة لما في الصحيح : منها أن الغلام كان صحيحاً فمات بغتة ، ومنها : أنه ترعرع ، والباقي بمعناه ، فعرف بهذا أن اسم أبي عمير : حفص ، وهو وارد على من صنف في الصحابة وفي المبهمات ، والله أعلم .
ومن النوادر التي تتعلق بقصة أبي عمير : ما أخرجه الحاكم(1) في " علوم الحديث" : عن أبي حاتم الرازي أنه قال : حفظ الله أخانا صالح بن محمد – يعني الحافظ الملقب : جزرة – فإنه لا يزال يبسطنا غائباً وحاضراً (2)، كتب إلي أنه لما مات الذهلي(3) – يعني بنيسابور – أجلسوا شيخاً لهم – يقال له : محمش – فأملى عليهم حديث أنس ... فقال : يا أبا عمير ، ما فعل البعير ! قال بفتح عين عمير ، بوزن عظيم ، وقال بموحدة مفتوحة بدل النون وأهمل العين ، بوزن الأول ، فصحف الاسمين معاً !!!
قلت : ومحمش هذا لقب ، وهو بفتح الميم الأولى ، وكسر الثانية ، بينهما حاء مهملة ساكنة ، وآخره معجمة ، واسمه : محمد بن يزيد بن عبد الله النيسابوري السلمي ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : روى عن يزيد بن هارون وغيره ، وكانت في دعابة .
تم بحمد الله